رفح.. أربعة آلاف عام من الحضارة تحت أنقاض الاجتياح الإسرائيلي

Admin Admin24 أغسطس 2025Last Update :
رفح.. أربعة آلاف عام من الحضارة تحت أنقاض الاجتياح الإسرائيلي

فيأقصى جنوب قطاع غزة، تتوارى مدينة رفح بين ركام القصف وآثار التاريخ. هذه المدينة التي لطالما شكلت بوابة حضارية وحدودية بين آسيا وإفريقيا، تحولت في الشهور الأخيرة إلى رمز للدمار والاقتلاع.

المؤرخ الفرنسي جون بيير فيليو، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدراسات السياسية بباريس، استعاد في مقالة له بصحيفة لوموند مسار رفح منذ نشأتها، مؤكداً أنها لم تكن مجرد نقطة جغرافية، بل فضاء حمل إرثاً حضارياً يمتد لآلاف السنين.

نشأت رفح في عهد الفراعنة كمركز لمراقبة بوابة كنعان، ثم تحولت إلى ساحة صراع بين الإمبراطوريات الكبرى: الآشوريون والبابليون والفرس، وصولاً إلى معركة كبرى عام 217 قبل الميلاد بين خلفاء الإسكندر. وصفها المؤرخ الإغريقي بوليبيوس بـ”آخر مدن آسيا”، دلالة على موقعها الحدودي الفاصل.

في العصر البيزنطي، أصبحت رفح مقراً لأسقفية، ثم عرفت بعد الفتح الإسلامي باسم “قلعة الجنوب”، حيث كانت محطة تجارية ومعبراً للقوافل. غير أن تأسيس خان يونس في القرن الرابع عشر أضعف مكانتها، فتحولت خلال العهد العثماني إلى بلدة صغيرة لا يتجاوز سكانها بضع مئات.

مع بداية القرن العشرين، رسم البريطانيون حدودهم مع العثمانيين عام 1906، فجعلوا الخط يمر وسط المدينة، مانحين إياها وضعاً خاصاً كمنطقة حرة للتجار والبدو. وبعد الاحتلال البريطاني لفلسطين عام 1917، احتفظت رفح بدور اقتصادي نسبي، إلى أن جاءت نكبة 1948، حين تحولت إلى ملجأ لعشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين، وشهدت نشوء واحد من أكبر المخيمات في غزة، الذي غدا مركزاً سياسياً بارزاً ومحل استهداف إسرائيلي دائم.

عرفت رفح خلال العقود اللاحقة محطات دامية، من بينها مجزرة 1956 التي راح ضحيتها أكثر من مئة لاجئ، ثم عمليات التهجير والتجريف عقب حرب 1967. وفي 1982، أدت اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية إلى تقسيم المدينة بين مصر وفلسطين، وهُدمت مئات المنازل لإقامة ممر “فيلادلفيا”.

وفي يوليوز 1994، شهدت رفح لحظة فارقة بدخول ياسر عرفات إليها عقب اتفاق أوسلو، قبل أن يُفتتح مطارها عام 1998، والذي لم يصمد سوى ثلاث سنوات قبل أن تدمره إسرائيل مع اندلاع الانتفاضة الثانية. وفي العقد الأول من الألفية الجديدة، برزت صور مقتل المتضامنين الأجانب مثل الأميركية رايتشل كوري والبريطاني توماس هورندال، كدليل على حجم المأساة الإنسانية في المدينة.

ومع حصار غزة بعد 2007، تحوّل معبر رفح إلى شريان حياة هش، تتحكم فيه الحسابات السياسية بين القاهرة وتل أبيب. لكن العملية العسكرية التي شنتها إسرائيل في أكتوبر 2023 دفعت نصف سكان القطاع للنزوح نحو رفح، التي سرعان ما تحولت من ملاذ أخير إلى مسرح لقصف وتدمير واسع.

فيليو، الذي زار غزة شتاء 2025، روى كيف نصب السكان خيامهم فوق الأنقاض بحثاً عن حد أدنى من الحياة، قبل أن تنهار الهدنة في فبراير وتستكمل إسرائيل عمليات الهدم بمساعدة شركات خاصة. واليوم، تحولت رفح – وفق وصفه – إلى مركز لتكديس أكثر من 600 ألف فلسطيني في مشهد ينذر بتهجير جماعي.

ويختم المؤرخ الفرنسي بأن ما يحدث في رفح ليس مجرد نتيجة لحسابات عسكرية، بل هو – في جوهره – محاولة منهجية لاقتلاع مدينة كاملة من الجغرافيا والتاريخ، ومحو ذاكرة حضارية ضاربة في القدم تمتد لأكثر من أربعة آلاف عام.

 

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

Breaking News