
أحمد ساجد لوموند24
مدخل: شرق أوسط يتغير تحت السطح
لطالما ارتبط الشرق الأوسط بالصراعات والانفجارات الكبرى، لكن ما نشهده اليوم يختلف تمامًا عن تلك الانفجارات الصاخبة التي شكلت محطات فارقة في تاريخه المعاصر. المشهد الجديد يتشكل بهدوء، عبر تحولات استراتيجية متراكمة، تفرز معادلات جديدة في ميزان القوى. المنطقة لم تعد على حافة الانفجار، بل في خضم عملية إعادة تشكّل تتقاسمها البراغماتية السياسية، والانزياحات الجيوسياسية، وتبدّل أولويات اللاعبين الكبار.
الرياض وطهران: من العداء المزمن إلى التفاهم الحذر
التقارب السعودي–الإيراني الذي رعته بكين في مارس 2023 ليس مجرد مصالحة دبلوماسية؛ بل إعلان ضمني عن نهاية مرحلة، وبداية مرحلة تفرضها ضرورات الاقتصاد والطاقة والتحالفات الجديدة. طهران، التي وجدت في الصين وروسيا حزام أمان اقتصادي، باتت أكثر ميلاً إلى ضبط النفس، بينما تدرك السعودية أن مستقبلها الإقليمي يعتمد على الاستقرار أكثر من المجابهة.
لكن هذا لا يعني أن الخصومة انتهت؛ فاليمن وسوريا ولبنان ما تزال ساحات تنافس ناعم، يسير تحت السطح، في لعبة شطرنج معقدة على النفوذ والسيطرة.
سوريا بعد الأسد: دولة في طور إعادة التعريف
رحيل نظام الأسد، أو على الأقل انكفاؤه عن مركز السلطة، يدشن فصلًا جديدًا في الأزمة السورية. روسيا، الحليف الثقيل، تبحث عن مكاسب تحفظ ماء وجهها، فيما تحاول تركيا إعادة ترتيب أوراقها بين مطامعها في الشمال السوري وضغط اللاجئين. أما إيران، التي دفعت ثمنًا باهظًا دعمًا للنظام، فتواجه تحدي البقاء في ساحة لم تعد تخضع لمنطق الحسم.
سوريا ما بعد الحرب لن تكون حكرًا على أحد، بل ستتحول إلى ساحة اختبار توازنات دولية، تحكمها تعقيدات الداخل السوري بقدر ما تحكمها مطامع الخارج.
اليمن: نهاية حرب الاستنزاف أم بداية لصيغة جديدة؟
في اليمن، تسير الأحداث نحو منعطف حاسم. التصعيد الأخير من قبل التحالف العربي، بدعم أمريكي–إسرائيلي لافت، يضع الحوثيين أمام ضغوط غير مسبوقة. الجماعة، رغم دعمها من طهران، باتت مكشوفة اقتصاديًا وعسكريًا.
السؤال المحوري يبقى: هل نشهد نهاية التمرد الحوثي؟ أم أنه مجرد انتقال إلى مرحلة “الحرب منخفضة الكثافة” التي تتعايش فيها القوى المتصارعة دون حسم نهائي؟ الواقع اليمني بات جزءًا لا يتجزأ من صراع النفوذ بين واشنطن وطهران، وساحة انعكاس للتجاذبات الإقليمية والدولية.
حزب الله وحماس: الأذرع الإقليمية في مرمى النيران
التصعيد ضد حماس في غزة، وضد حزب الله في لبنان، يتجاوز منطق الرد العسكري، ليشكل جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى تفكيك بنية النفوذ الإيراني في المنطقة. من الاغتيالات إلى الغارات المكثفة، يبدو أن هناك قرارًا بتقليم أذرع طهران في محيطها العربي.
لكن كما أثبتت التجربة، تفكيك هذه الجماعات لا يتم عبر الغارات وحدها. إنها بنى اجتماعية وعقائدية وجيوسياسية مترسخة، وتحتاج إلى مواجهات مركبة تتجاوز منطق السلاح.
عودة ترامب: عقارب السياسة الأمريكية تعود إلى الوراء؟
إذا عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فستدخل المنطقة حلقة جديدة من عدم اليقين. سياساته الصدامية مع إيران قد تعيد عقارب الساعة إلى “استراتيجية الضغط الأقصى”، مع احتمال انفجار الجبهات المؤجلة. وفي المقابل، قد تشهد الملفات السورية واليمنية تراجعًا في الاهتمام الأمريكي، ما يفتح الباب أمام موسكو وبكين لملء الفراغ.
أما في الملف الفلسطيني، فكل المؤشرات تشير إلى دعم مطلق لإسرائيل، قد يدفع إلى مزيد من التوتر في غزة والضفة الغربية، ويجعل التسوية السياسية أبعد من أي وقت مضى.
الحرب الروسية–الأوكرانية: تأثيرات غير مباشرة على الشرق الأوسط
الملف الأوكراني يُلقي بظلاله الثقيلة على الشرق الأوسط. مع ميل واشنطن لتخفيف انخراطها في الحرب، تزداد قدرة روسيا على إعادة تموضعها في المنطقة. في الوقت نفسه، أي هدوء نسبي في أوكرانيا قد يضغط على أسعار الطاقة نزولًا، ما يؤثر مباشرة على موازنات الدول الخليجية وخططها الاقتصادية الطموحة.
إعادة إعمار غزة: بين السياسة والإنسانية
المبادرة المصرية لإعادة إعمار غزة تمثل محاولة لإخراج القطاع من دوامة الدمار المزمن. لكن التحدي الأكبر يكمن في كيفية منع تسلل هذه الجهود إلى أجندات الفصائل أو الهيمنة الإسرائيلية. غزة اليوم لم تعد مجرد ملف إنساني، بل ساحة صراع سياسي واقتصادي وأمني.
شرق أوسط لا يعود إلى الوراء
الشرق الأوسط في طور إعادة التشكيل. لا الحروب السابقة أنهت الصراعات، ولا المصالحات الأخيرة أغلقت الملفات. نحن أمام منطقة تتقاطع فيها القوى الكبرى، وتتزاحم فيها الطموحات، وتُكتب توازناتها الجديدة بالحبر والدم معًا.
الحدث الذي أعاد خلط الأوراق، 7 أكتوبر 2023، سيبقى لحظة مفصلية. ما بعده لن يشبه ما قبله. والمنطقة اليوم لا تُدار فقط بمنطق الردع، بل بمنطق البراغماتية الهادئة، وإدارة التوتر بدل تفجيره. شرق أوسط جديد يتشكل… لكن ملامحه النهائية لا تزال غامضة.